فن القصة بالقرآن الكريم
بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : القصة فن له مكانته
في الآداب العالمية،تسنمت بين فنون الأدب ذروة عالية ،ونافست فنون الأدب ،حتى عدها كثير
من النقاد المعاصرين "سيدة الأدب المنثور " .وهي أكثر الأنواع الأدبية فعالية بالنسبة للوعي
الأخلاقي ،لأنها تجذب القارئ لتدمجه في الحياة المثلى التي يتصورها الكاتب كما تدعوه ليضع
خلائقه تحت الاختبار، إلى جانب أنها تهبنا من المعرفة ما لايقدر على هبته أي نوع أدبي
سواها، وتبسط أمامنا الحياة الإنسانية في سعة وامتداد،وعمق وتنوع .
ومن قبل بكثير سبق القرآن الكريم فأولى القصة اهتماما كبيراً ،حتى شغلت أخبار الأمم السابقة
مع أنبيائها ،ووقائع الماضي البعيد الذي عفت عليه الأيام مساحة واسعة ،لما لها من تأثير عظيم
ومن دلالة على إعجاز القرآن بأخباره عن غيب الماضي البعيد الذي عفى رسمه ،وذهب
علمه، وتصحيح ما كان با قياً منه عما علق به من الخرافات.
- القصة لغة واطلاقات القرآن عليها:
يستعمل القرآن في التعبير عن هذا اللون من موضوعاته الكلمات الدالة المعبرة عن الحقائق
والمقاصد الضخمة التي تشتمل عليها .
وأول ما نذكر من هذه الكلمات :مادة "قص"وهذه المادة في أصلها اللغوي تدل على التتبع لأمر
ما .ومن ذلك القص مصدر بمعنى تتبع الأثر ،وكذا القصص ،ومنه قوله تعالى :"فارتد على
أثارهما قصصاً " سورة الكهف آية /64/
وقوله تعالى :" وقالت لأخته قصية فبصرت به عن جنب."سورة القصص آية /11/.
أي قالت أم موسى لأخته القيه في الماء وتتبعي اثر موسى لتعلمي من يأخذه وأين يكون أثره .
.ومن القصص :بمعنى ذكر الحوادث والوقائع السابقة ،ومن هذا المعنى آيات كثيرة، كقوله في
ختام قصة مريم :" إن هذا لهو القصص الحق وما من اله إلا الله " سورة عمران آية /64/.
وقال الله تعالى في أهل الكهف :"نحن نقص عليكم نبأهم بالحق أنهم فتية امنوا بربهم وزدناهم
هدى." سورة الكهف آية /64/
وقال تعالى في مطلع سورة يوسف :" نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا
القرآن وان كنت من قبله لمن الغافلين ."سورة يوسف .
ومن استعمال هذه المادة قوله تعالى عن لسان يعقوب :"يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك
فيكيدوالك كيداً." وقص الرؤيا هو تتبع ما رآه النائم بذكره والتحدث به .
كذلك يستخدم القرآن الكريم عبارة " نبأ "وما يشتق منها والنبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر
كقوله تعالى :" ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك "
وكقوله تعالى:" نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ".سورة يوسف .
كذلك يشير القرآن لقصص السابقين بكلمة "الأيام " كقوله تعالى " وذكرهم بأيام الله ". أي
وقائعه العظيمة في الأمم السابقة .
- تعريف القصة وأقسامها:
القصة حكاية تروي نثرا وجها من وجوه النشاط والحركة في حياة الإنسان .
وهي أقسام من حيث صلتها بالواقع :
1- القصة الواقعية التاريخية .
2- القصة الواقعية المعبرة عما يجري مثله في الواقع .
3- القصة الأسطورية أي الخيالية .
أما قصص القرآن الكريم فهو من النوع الأول فقط وهو القصص الواقعي التاريخي
- أهداف القصة :
إن أهداف القصة في القرآن الكريم تسمو على أهداف كل ما سواها لأنها حكم وأسرار
مرتبطة برسالة القرآن ومقاصدها دعوته الاعتقادية، والعلمية،والسلوكية، والأخلاقية .
ونلخص فيما يلي أهم تلك الأهداف :
أولاً- الهدف الأكبر والأعظم هو إعجاز القرآن ،واثبات نبوة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم .
ثانيا- بيان أن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله في النهاية ، ويهلك الكافرين المكذبين .
وفي سورة غافر يقول الله تعالى:عقب قصة موسى وفرعون ،ومؤمن آل فرعون ،وانجاء الله
موسى والمؤمن وإهلاك فرعون :" انّا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم
الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار". سورة غافر الايتان /51-
52 /
ثالثاً- بث المعاني الدينية الواضحة وترسيخ قواعد الدين ،بما يقع في ثنايا القصص من حوار
،ومواعظ وحجاج، يصغي إليها السامع،ويتابعها القارئ، سواء كان موافقا أو مخالفاً،مؤمنا أو
كافراً، لما في طبيعة القصص من التشويق والإثارة .
ففي قصة موسى مع فرعون برزت هنا توجيهات على لسان الرجل المؤمن يقرر أمورا على
غاية من الأهمية ،وهي جميعها معان دينية ،وتوجيهات صريحة تضمنها الحوار القصصي
،يجعل في النفوس ابلغ وأعمق .سورة غافر الآية رقم 28/ حتى/ ومن يضلل الله ماله من هاد / .
- منهج القصص في القرآن الكريم :
أولا : أن القصة لا ترد في القرآن الكريم بتمامها دفعة واحدة ،بل يقتصر على الجزء الذي
يناسب الغرض الذي تساق القصة لأجله .وهذا الجزء الذي يذكر إنما يذكر بالحدود الملائمة
للغرض كذلك .
فقصة موسى مع فرعون في سورة غافر وردت في جو كأنه جو معركة بين الإيمان والكفر
،فتذكر السورة من القصة ما يلائم ذلك :محاولته قتل موسى ،والتفكير بقتل "أبناء الذين آمنوا
واستحيوا نساءهم."ثم ظهور الرجل المؤمن بين قوم فرعون يكتم إيمانه ينصر موسى ويدافع
عنه، واحتيال فرعون للتهرب من دلائل الحق وبراهينه إلى أن تأتي نهايته بالهلاك والعذاب
الأليم ويحفظ الله تعالى لهذا المؤمن الحكيم "فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء
العذاب...."فكان الختام ملائما لجو السورة ،كما انه في الوقت نفسه ختام فني رائع ، وهو ذلك
المشهد الذي يبرز فرعون و قومه قد حل بهم" سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ." .
ثانياً- استخراج التوجيهات والعظات ، والإعلان بها في ثنايا القصة وختامها ،مما توحي به
القصة من العبر والدروس . ففي قصة لقمان مثلاً :وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه : "يا بني لا
تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم".يأتي البيان القرآني بتعقيب على الموعظة بقوله تعالى :
" ووصينا الإنسان بوالديه ...."فهذا بعد وصية لقمان الأولى ليس من كلام لقمان، بل من كلام
الله تعالى يوجهه سبحانه لعباده لمناسبة وعظ لقمان ،يحقق غرضين كبيرين:
1 -ً التأكيد على وصية لقمان " لاتشرك بالله" ببيان انه أعظم الحقوق .
2- ًتأكيد حق الوالدين، وبيان انه اجلّ حقوق العباد على الإنسان .
ثالثا ً- التكرار: والتكرار خاصة من خصائص أسلوب القرآن بصورة عامة ،والتكرار فقرتين:
- تكرار القصة في القرآن :
إن كلمة التكرار إنما هي استشهاد بالقصة لأغراض متعددة ،لذلك لا نجد القصة تعاد كما هي
وإنما يذكر الجزء المناسب للغرض والمقصد الذي اقتضى الاستشهاد بالقصة باستعراض سريع .
أما جسم القصة فعلا يتكرر إلا نادرا، ولاستنباط دروس وعبر جديدة منه مما يجعله على الحقيقة
غير مكرر.وهكذا تكررت قصة موسى ، مع فرعون،ومع قومه،ومع نبي الله شعيب في مدين،....
وفي كل موضع عبرة وعظة وحكمة ودروس .
- تكرر العبارات في القرآن:
هذا القسم من التكرار يبرز بعض خصائص أسلوب القرآن ،وأسرار بلاغته المعجزة،فتارة يكرر
الجملة أو العبارة بنصها دون تغير فيها ،لمافي ذلك من التأكيد، أو التهويل ، أو التصوير،وكل
ذلك له اثر عظيم في تعميق المعنى في النفس وصدعها عما تصر عليه. ويظهر ذلك بوضوح
بالمثال الذي يتبادر للذهن أول شيء لدى ذكر التكرار،وهو سورة الرحمن التي تكرر فيها كثيرا
قوله تعالى :" فبأي آلا ء ربكما تكذبان" فان هذه السورة تعدد للمنكرين نعم الله عليهم ودلالة كل
نعمة على وجوب الانقياد لله تعالى شكرا له ،وخضوعا لعظمته، لكنهم كفروا هذه النعم كلها،
فجاءت سورة الرحمن تحاجهم وتجافهم بإيقافهم على كل واحدة منها بالحجة الملزمة،وهكذا
بالتعداد المفصل لتلك النعم والدلائل حتى تزحزح المعاند عن عناده،وترسخ في أعماق النفس
الشعور بوجوب شكره تعالى .فعقب ذكر كل واحدة من النعم والدلائل بهذه الآية" فبأي آلاء ربكما
تكذبان".
وتارة يكون التكرار مع اختلاف في نظم الجملة ،أو إيجاز أو إطناب آو نحو ذلك .وذلك يبرز سر
من أسرار إعجاز القرآن،وهو التعبير عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب دون أن ينال تكرار
المعنى من سمو الاسلوب وإعجازه .
تم بعونه والحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.